أي شمّاعة يمكننا أن نعلّق عليها أخطائنا وابتذالنا واغترابنا و إجرامنا في حقّ ذواتنا قبل كلّ شيء ؟ أي يد بيضاء قد تمسح على صدورنا لتورق بداخله براعم عقيدة صافية،نابعة عن إيمان راسخ ،خالصة من سوس النفاق ، ساجدة لله وحده ،عندئذ كم ستملئ في قلوبنا من ثغرات ؟ أي عفة قد تغمرنا في سواد العباءات والقلوب وأي جدوى في بحثنا عن مسميات جديدة للحرام والحلال في ظل فكر كاسد يربي التخلف والتبعية والذبول؟ لست جاحدة ، لست من نسل النار، ربما لا اعرف لغة السماء جيدا لكني انشد في ابتهال للرب الأوحد ، وأهطل بعبراتي أحيانا لبديع خلقه. يمكن القول أنني بنت الجامعة الأشد تفردا وغرابة ، أنا قلب عار من اللون والشعارات ، روح خضراء هائمة أثقلها الرماد والحطام و مرأى الأجساد المتلاشية ، ابحث عن تأشيرة لخوض الحياة بأقل ما يمكن من العقد والظلال و فتنة الأفكار الواردة ، يعذبني انتمائي لبني البشر، الكائن الأشد افتراسا لبني جنسه. أخاف أن انهض يوما لأجدني مبتلعة في جرعة كولا وقضمة همبرغر، أخاف أن يلفّني الغياب على أنغام الراب و الهيب الهوب و برودة الموسيقى الالكترونية، أخاف أن أظل الكائن المدهوس بالكعوب الخشنة في ضوضاء العنف والتسلط ، المسحوق تحت نير التظليل والاستخفاف بلا ذنب اقترفه سوى التطلع ـ قليلاـ إلى فوق ككل الرؤوس في هذا العالم الفسيح، أخاف أن اقذف من رحم الذل إلى الوجود كائنات صغيرة مني ، قد تُحصد قبل إثمارها ، قد يعذبها التمزق و الفجيعة لمرأى بني دمها يتقاتلون ويقتلون فلا تجد من بدّ سوى الولوج بلا نهاية في دوامة القتل والاقتتال ، قد تفنى ضمن قوم يلصقون بهم أبشع التهم ويخترعون من اجلهم مصطلحات الكره ومشتقات الإرهاب، ويبنون من اجلهم أعتى السجون والمعسكرات ويربون لهم أكفء السجانين و... السجانات. أنا كائن لا يحتمل خوفه و جزعه وفزعه و وجله وارتعابه... آه! ابحثي معي أيتها اللغة المجيدة في صفحات الضاد عن كل المرادفات و المسميات لهذا الشعور الغامر الذي يمحقني ،أنا الدامعة لما لا تراه العيون، أحارب في ذات الآن الخوف و الملل وزحف الذكريات . دفعت مقابل وصولي لمقرّ سكني في مدينة التناقضات. استوفيت هذه السنة حقي في السكن الجامعي، وبعد محاولات فاشلة لإيجاد غرفة في مبيت خاص ، التجأت لكراء استديو بغرفتين صغيرتين و مطبخ و حمام ملحق تحت الدرج . لم يعد يعوزوني المال، تجد أوراق النقد والبطاقات البنكية دائما طريقا لحافظة نقودي . عليّٙ فقط تناسي منبع هذه الأموال و إخفاء دمعات قهر واسى أمام الكوّة البلورية بمكتب البريد في بداية كلّ شهر. أضئت الأنوار كلها ، وٙصٙلْت السّخان بالكهرباء ، فتحت التلفاز، الراديو الصغير بجوار فراشي، جهاز الكمبيوتر المحمول ...كلّها في آن. أخبار العاشرة... فاجعة العاشرة، نشرات الأوجاع في كلّ الأوقات : تفجيرات، جثث منسوفة، حروب، أوطان مغتصبة،كتائب مقتتلة، سنة،شيعة،عرب،أكراد و إغراء لن يقدر شيطان كبير على لعق لعابه إزائه ، مجازر،نفط ، حرائق،الجوع ، جنون البقر أو الحمى القلاعية ،أنفلونزا الطيور أو أنفلونزا الخنازير أم أنفلونزا العقول وموت الضمائر،شركات تغتني والمئات تموت ،أعاصير،أزمات مالية ،انقلابات، سلاح نووي : ترف البلدان المتقدمة أم مقصلة البلدان الفقيرة،الأبالسة و جدرانهم الإسفلتية الضخمة ،الرازحة بقسوة أحقاد قرون مختزنة في قلوبهم السوداء ، لازلت تعلو وتمتد، أطفال تموت ، نساء ومساجد تنتهك حرماتهنّ أمام عدسات الكاميراوات ، المجتمع الدولي ...مرحى للخرس وللصمم العالميين، الإرهاب أو الإسلام بريء من لحى تطول تحت اسمه... فاجعة الحادية عشرة...لنبدّل قناة الفواجع، ماذا نختار؟! قنوات الضحك على الذقون بكثرة أوبئة هذا الزمان...تبث أغان للفرجة ، أغلق أذنيك فقط وافتح عيونك باتساعهما على نخاسة الأجساد و تجارة الرقيق من كل الأجناس والأعراق . الدراما بكلّ اللغات، بتنا نستورد مع القمح والسكر والقهوة البعض من الأحلام الوردية والمشكلات العاطفية بنكهات متعددة: تركي، كوري، مكسيكي ،هندي أو ربما فيلم مترجم ببطل أمريكي وسيم ،مفتول العضلات والأكاذيب ،هرقل القرن الحادي و العشرين،حامي الكون من كائنات فضائيةـ في كوننا كائنات اشد فتكا دون مركبات غريبة الأشكال ووجوه خضراء بأسلحة فتاكة،كائنات أنيقة ببدلات و ربطات عنق فخمة و طائرات خاصة و أقلام مذهبة ،جرّة قلم واحدة ...والآلاف إلى العدم ـ
الإذاعة الثقافية...ثقافة الاغتراب و الابتئاس و الموت بداء الوطن وعقم الكلمات . ومن حسن حظي أني أنام وحيدا فأصغي إلى جسدي واصدق موهبتي في اكتشاف الألم فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق وأخيب ظن العدم من أنا لأخيب ظن العدم من أنت يا درويش؟ يا أيها العملاق في زمن القامات المتقزمة،تتساءل من أنت؟ بلى، من أنت؟من نحن؟ومن هم؟ تتعالى الأصوات متداخلة، تتشابك دروبها لتصل إلى أذنيّٙ ضوضاء ألفٙت۫نِي في وحشة الوحدة. كلّ مساء حين تداهمني الظلمة، التفّ في فراشي وأغطي رأسي وأبدأ الانتحاب، باكية من الخوف والبرد والوحدة. بحلول الفجر، أكون قد ذويت كالشمعة المحترقة.وفي الصبح وبعد أن أرعبني الليل، انزلق بسلاسة انسياب النور من شرفات الانتظار وانسحب رويدا من فخاخ العدم لأعبر بحذر فوق شظايا جسدي المرتعب و أمام المرآة ككلّ يوم ألملم نفسي و أعيد ترتيب ملامح وجهي التي بعثرها الخوف. أرتدي معطف السواد وألفّ وشاح الصوف حول عنقي، أجمع أوراقي المضطربة و أضمّ حقيبة الجلد الصغيرة إلى صدري وأمضي في زحام الصباح إلى مقاعد الدرس.
كائن مرتعب، تنشب الوحدة مخالبها في روحه الضالة ، وتُف۫حِمه إجابات قاسية لتساؤلات الوجود، يخنقه الخوف كأنشوطة لُفّت ببراعة جلاد حول رقبة محكوم بالإعدام. تستقبله كلية الآداب بشعبها : العربية، الفلسفة، التاريخ، الجغرافيا وغيرها من الاختصاصات الملعونة بشبح البطالة في خفر، ويدخلها كديناصور أخير، حاملا دفاتره وعدد جديد من إحدى المجلات الأدبية و إذا ما اعترضت دربه إحداهن مختطفة سلوى الصباح الوحيدة من بين يديه باحثة عن صورة مغنيها المفضل أو أخبار هيفوات "الموزيكا" العربية،يخبرها انه يحدث أحيانا أن تخلو مطبوعة عربية من صورهم وأخبارهم وأسماء كلابهم ...حاشا أسماعكم! لكن البصر ملّ ـ قبل السمع ـ وجوههم "المعدّلة" تجميليا،تراهم أكثر مما ترى أقاربك ، تصادفهم على القمصان والحقائب و إعلانات الشامبو و الصابون، يطاردونك في كلّ مكان و إذا ما أخطأت واشتريت جريدة ثلاثة أرباعها إعلانات للعرافين و الدجالة و أدوية الفحولة وما تبقى منها حظك اليوم وأريد حلا و مهازل لعبة الجلد المكور، ذائعة الصيت ، فسيصعقك على الصفحة الأولى و بأعرض الخطوط خبر طلاق هرّة الشاشة من فهد الأغنية،مأساة،تطلقا قبل أن ينجبا هزبر الأمة العربية . و إذا ما سألك احدهم متعمّدا جرح اعتزازك باختياراتك: ماذا تدرس؟ فرجاء ارفع راسك و قلها في ثقة،لا تغممهما رجاء اهتفها كشطر قافية يتوق إلى شقّه الأعذب: ـ أدرس اللغة العربية ، لغة الأسلاف و المجد الغابر،حلمي الاجمح خيالا هو أن أقوِّم ألسنة أولادك ليهتفوا بكلمات الحب والحياة والنصر والعلم بالعربية ،إذا ما قُدِّر لي العمل طبعا . ﴿قلها في سرك هذه الجملة الأخيرة،فقط لتطمئن نفسك أن الأمل موجود وأن الحياة تلعب لعبتها الأجمل أحيانا﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق