بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 23 يوليو 2010

مخاوف فراشة النّور
هل نحن من نعيش حياتنا أم هي من يعيشنا ويستنزفنا؟
رفعت رأسي المحموم،أجالت البصر ملتقطة ضحكة فاقعة تبادلتها نادلة صفراء مع زميل لها ومختزنة القليل من حميمية المكان ،رؤوس كثيرة تملؤه هذا المساء.
على الطاولة المحاذية لطاولتي، تجاور رأسا عاشقين تقاربا حتى كادا أن يتلامسا، كان بينهما همس اخفت من أن يصل سمعي المتوثب و قبل هوائية تبادلاها على مهل، قرأتها في نظراتهما، في اختلاج الشفاه، ووميض العيون كنت الوحيدة التي تجلس إلى طاولة وحيدة في الركن، راقبتهما حتى ارتجّ الفؤاد حزنا على وجودي وحيدة في مقهى مكتظ بالعشّاق وأزواج المحبين.
الرابع عشر من شهر فيفري الكئيب،
عيد العشّاق...أو أشتات من يوم آخر حزين دونك.
عيد الحب ...أو وهم خلقته مخيّلات ضحلة في حاجة إلى يوم يذكرها بأنّها في حالة حب ـ كأنّما الأمر يستحق التذكيرـ وأنّ أي هدية مهما بلغت قيمتها قد تفلح في ترجمة مقدار حبنا.
عيد الحب...أو فرصة تستغلها شركات تصنيع الهدايا وبطاقات التهنئة والدمى البيضاء بقلوب قانية والشموع الوردية ذات الروائح العطرة والورود المستنبة و شركات الاتصالات وأصداءالحب المذاعة في أغان جوفاء.
عيد الحب ...أو إحباط جديد لقلب يتداعى.
في يوم كهذا، ماذا يعني الحب في عالم ملؤه العدوان، والقهر، والفقر، والجشع، والكره، والجهل، والمرض؟؟؟ ماذا يجدي الحب في مواجهة الوحدة ،والفقدان والموﺗــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ؟؟؟
في يوم كهذا،لم اقبع في مقهى خافت الإضاءة،تملؤه المناجاة والقبل الطائرة وتلامس الأيادي الدافئة واستهزاء النادلة مصطنعة الشقرة من بلهاء تجلس وحيدة محدقة في فنجان قهوتها الباردة؟
دفعت مقابل جلسة الوحدة الكئيبة وخرجت.
خارج المقهى، كانت الريح تعوي وقطرات المطر بدأت التزاحم لتبلل بلّور السيارات والواجهات وبعض المارّة المسرعين للعودة إلى بيوتهم في بداية مساء قارص البرودة ونهاية يوم صاخب تراقص على وقع القلوب الخافقة لكلمات الغزل و الرسائل المضمخة حبا وعطرا.
وقفت في عرض الطريق.
ولأوّل مرة، تلفتت حولي ممعنة النظر: الأشجار العارية من أوراقها تقف مرتجفة بطول الرصيف واللافتات الضوئية الغامزة بكلّ الألوان لمحلات الأناقة والمقاهي وكلّ تلك الأضواء المشعّة ورائحة المطر و...السيارات الضّاجة وقد تعالى زعيقها و صياح سائقيها الساخطين .
وقفت متجردة من كلّ الخيوط الواهية التّي تربطني بهذه المدينة، أسلمت وجهي للمطر يغسلني من أوجاعي...
جذبتني يد خشنة نفُذ صبرها وأرجعتني في عنف إلى الرّصيف مع سيل من الشتائم.
مشيت يبللني المطر، كان هناك حديث صامت بين أعمدة الهاتف و الشرفات المغلقة ومواء قطة جائعة قفزت إلى حاوية خضراء مثقلة زبالة، و نشيج مخمور تقاذفته الجدران...
خطورة الحب أنّنا لا نعي وقوعنا إلا في وقت متأخر جدا...
وقت تصبح فيه كلﱡ محاولة للنهوض من جديد صعبة جدا و مستحيلة ومؤلمة.
وإذا كان ما نعيشه اليوم ـ مهما بلغت قسوته ـ هو نتيجة تفاصيل صغيرة تراكمت في الماضي ، فكم هوصعب ومستحيل ومؤلم العيش مع فكرة أنك غدوت مجرّد تفصيل صغير من الماضي، صورة أعيش على إحيائها في ذاكرتي علّها تصبح حقيقة وتُنفخ فيها الروح من جديد.
عيد العشّاق...نخب الوداع والفراق...
وشكرا للذكرى الأقسى على قلبي. توقف المطر عن الهطول ووقفت أنا تحت عمود إنارة انتظر مرور تاكسي يقلني إلى بيتي في الضفة الأخرى من المدينة. مثقلة الرأس، بردانة أنتظر السيارة الصفراء،أقطر بللا و حزنا...
تباطأت سيارة وتوقفت...
سيارة بيضاء، لمّعها المطر و أضواء المساء الخافتة وأطلّ منها رأس أسمر و ابتسم:
ـ نوّصلك... برد عليك.
وتسلّقتني النظرات متفحصة:الحذاء الموحل، المعطف الأسود المبلل، وجهي المتجهم، سيول الكحل متعرّجة جداول سوداء على وجنتي، شعري في فوضى الخصلات المجعدة...
ملامح شاحبة لأنثى محنّطة في طريقها للانقراض بعيون مذعورة، فلم لا يمضي و يدعني لشأني، صاحب هذه السيارة البيضاء ذات الهوية الأجنبية بأرقام واسم مدينة تنتمي إلى قطر عربي شقيق؟&
لِم يُلْغمني خوفا وذعرا؟
في مواجهة المعاكسات ،يثقل لساني ويتملكني الجمود ،أضنُّ بكلماتي واكتفي بنظرة موجزة،مشبعة احتقارا وامضي،لكن في مساء ممطر ،مقفر تلفه الظلمة ويلوذ عابروه بدفء البيوت و المقاهي، اكتفي بالتسّمر مكاني،متأهبة للفرار وإطلاق حنجرتي بالصراخ.
لم لا يمضي هذا الغريب الذي لا يتوقف عن الكلام ؟ ألا يرى شحوبي و ارتجافي؟ لم لا يمضي؟!
وانطلقت السيارة البيضاء أخيرا، خلّفتني مجهدة، خافقة القلب كطريدة فرّت بشق الأنفس من البراثن وضحكت عاليا، قهقهت حتى دمعت عيوني لا يزال ذاك الشعور المبهم المسمى ـ عموما ـ بالخوف قادرا على وخزي والنبض داخلي بكلّ الانفعالات، أنا الكائن المجبول خوفا، لازلت لي القدرة على الارتجاف وجلا من رجل مجهول في بداية المساء.
تجيء السيارة الصفراء مفاجئة دائما في هذه المدينة، كالمطر تماما، تغيب إذا انتظرتها...
متهدجة الأنفاس ،غمغمت عنواني للسائق، حدجني مستغفرا وتبادلت ابتسامة مكتئبة مع انعكاس وجهي في المرآة، إنها مدينة النوايا الملتوية والأفكار المغلوطة .
بنات الجامعة في هاته المدينة يُرْمقنّ شرزا ،يُعرفنّ من تأنقهنّ الزائد عن اللزوم ولهجاتهنّ المخفية في رطانة أبناء المدن وأحيانا تشي بهن حرية المغالطات التّي يمارسنها بعيدا عن أنظار الآباء والإخوة في" البلاد" .
بنات الجامعة،أدرجهنّ في ثلاث فئات باعتبار مظهرهن الخارجي و ميولاتهن والأهداف المرصودة في أذهانهن : فئة أولى ، ملتزمة بالتقاليد و مبادئ " الشرف "التّي تربت عليها ،واضعة نصب عينيها الشهادة الجامعية والتميز، لا تعرف غير طريق واحد ثلاثي الوجهة: الكلية ،المبيت،المطعم الجامعي . يقضينّ أوقاتهن في غرفهن أو في المكتبات وإذا ما دبّ الملل في نفوسهن، قد يخرجن في كوكبة فتيات مبتسمات في خجل وأحيانا في استعلاء. هذه الفئة بالذات تثير فضولي وكم راقبتهن في عجب في قاعات الدرس وهن منتبهات، ايادهن تخطّ ما يتفوه به الأساتذة ممن درر، يهززن رؤوسهن في انبهار و يكدن السجود في "الحرم" الجامعي ، يعجبني إصرارهن على تحقيق أهدافهن ،أنا التي افشل في إيجاد هدف واحد لوجودي .
فئة ثانية، يقضين أوقاتهن في المقاهي والنزل و المطاعم ومراكز اللهو والاستمتاع المنتشرة كالفقاع في هذه المدينة،الضاحكة بأسنانها الصفراء لطالبي اللذة القادمين من كل الأصقاع. متشابهات لدرجة الغرابة، متلونات كحرباوات، زاهيات كورود بلاستيكية ، مقنّعات بابتسامات حمراء فاقعة أجدن رسم زواياها ، يتصيدن نظرات الاشتهاء لمؤخراتهن المحشورة في سراويل الدجين الضيّقة، يتبادلن ملابس الإغراء وعلب الماكياج و العدسات اللاصقة وفي آخر اليوم ،حين يعدن إلى غرف المبيت ـ إذا ما عدن ـ يتباهين بحصيلتهن ويرتمين بثقل على الأسرة مواصلات أحاديثهن و شجاراتهن التافهة .
أمرُّ بهن و ابتلع غصّة الأمهات المنتظرات في لهفة عودة بناتهن "المغتربات" أما الفئة الثالثة فهي الوجوه المتعبة و الأقدام الراكضة خلف الحافلة و المترو والتأففات من صعوبة المقررات الدراسية ولهفة التساؤل عن المنح و القروض الجامعية ، هي الملل و الإحباط من مرور السنوات بغتة في ذات الفصل والخوف من التخلف عن قطار الزواج في انتظار التخرج والكاباس والوظيفة ، وهي أحيانا أحلام وردية تخفق بها العيون لزميل ونظرات غيرة وقصص وحكايات كثيرة عن الحب ، يجهدها الولاء للعائلة والتوق للتحرر. فئة هجينة تتقاسمها صرعات الموضة والتقليد لنجمات هزّ الخصور والنهود العربية أو الالتزام بالزي" الإسلامي" .
وكم كتمت ضحكات مرارة وأنا أشاهد بعض الملتزمات في أزياء مبتكرة تُلْفت الأنظار،أزياء تجمع السراويل الضيقة والتنانيرالقصيرة والقمصان المشدودة والكعوب العالية وحدائق من الورود على الرؤوس و الصارخ من الزينة على الوجوه وكم شهدت لهنّ الشواطئ المهجورة من خلوات "بريئة" في غفلة عن العيون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق