أي شمّاعة يمكننا أن نعلّق عليها أخطائنا وابتذالنا واغترابنا و إجرامنا في حقّ ذواتنا قبل كلّ شيء ؟ أي يد بيضاء قد تمسح على صدورنا لتورق بداخله براعم عقيدة صافية،نابعة عن إيمان راسخ ،خالصة من سوس النفاق ، ساجدة لله وحده ،عندئذ كم ستملئ في قلوبنا من ثغرات ؟ أي عفة قد تغمرنا في سواد العباءات والقلوب وأي جدوى في بحثنا عن مسميات جديدة للحرام والحلال في ظل فكر كاسد يربي التخلف والتبعية والذبول؟ لست جاحدة ، لست من نسل النار، ربما لا اعرف لغة السماء جيدا لكني انشد في ابتهال للرب الأوحد ، وأهطل بعبراتي أحيانا لبديع خلقه. يمكن القول أنني بنت الجامعة الأشد تفردا وغرابة ، أنا قلب عار من اللون والشعارات ، روح خضراء هائمة أثقلها الرماد والحطام و مرأى الأجساد المتلاشية ، ابحث عن تأشيرة لخوض الحياة بأقل ما يمكن من العقد والظلال و فتنة الأفكار الواردة ، يعذبني انتمائي لبني البشر، الكائن الأشد افتراسا لبني جنسه. أخاف أن انهض يوما لأجدني مبتلعة في جرعة كولا وقضمة همبرغر، أخاف أن يلفّني الغياب على أنغام الراب و الهيب الهوب و برودة الموسيقى الالكترونية، أخاف أن أظل الكائن المدهوس بالكعوب الخشنة في ضوضاء العنف والتسلط ، المسحوق تحت نير التظليل والاستخفاف بلا ذنب اقترفه سوى التطلع ـ قليلاـ إلى فوق ككل الرؤوس في هذا العالم الفسيح، أخاف أن اقذف من رحم الذل إلى الوجود كائنات صغيرة مني ، قد تُحصد قبل إثمارها ، قد يعذبها التمزق و الفجيعة لمرأى بني دمها يتقاتلون ويقتلون فلا تجد من بدّ سوى الولوج بلا نهاية في دوامة القتل والاقتتال ، قد تفنى ضمن قوم يلصقون بهم أبشع التهم ويخترعون من اجلهم مصطلحات الكره ومشتقات الإرهاب، ويبنون من اجلهم أعتى السجون والمعسكرات ويربون لهم أكفء السجانين و... السجانات. أنا كائن لا يحتمل خوفه و جزعه وفزعه و وجله وارتعابه... آه! ابحثي معي أيتها اللغة المجيدة في صفحات الضاد عن كل المرادفات و المسميات لهذا الشعور الغامر الذي يمحقني ،أنا الدامعة لما لا تراه العيون، أحارب في ذات الآن الخوف و الملل وزحف الذكريات . دفعت مقابل وصولي لمقرّ سكني في مدينة التناقضات. استوفيت هذه السنة حقي في السكن الجامعي، وبعد محاولات فاشلة لإيجاد غرفة في مبيت خاص ، التجأت لكراء استديو بغرفتين صغيرتين و مطبخ و حمام ملحق تحت الدرج . لم يعد يعوزوني المال، تجد أوراق النقد والبطاقات البنكية دائما طريقا لحافظة نقودي . عليّٙ فقط تناسي منبع هذه الأموال و إخفاء دمعات قهر واسى أمام الكوّة البلورية بمكتب البريد في بداية كلّ شهر. أضئت الأنوار كلها ، وٙصٙلْت السّخان بالكهرباء ، فتحت التلفاز، الراديو الصغير بجوار فراشي، جهاز الكمبيوتر المحمول ...كلّها في آن. أخبار العاشرة... فاجعة العاشرة، نشرات الأوجاع في كلّ الأوقات : تفجيرات، جثث منسوفة، حروب، أوطان مغتصبة،كتائب مقتتلة، سنة،شيعة،عرب،أكراد و إغراء لن يقدر شيطان كبير على لعق لعابه إزائه ، مجازر،نفط ، حرائق،الجوع ، جنون البقر أو الحمى القلاعية ،أنفلونزا الطيور أو أنفلونزا الخنازير أم أنفلونزا العقول وموت الضمائر،شركات تغتني والمئات تموت ،أعاصير،أزمات مالية ،انقلابات، سلاح نووي : ترف البلدان المتقدمة أم مقصلة البلدان الفقيرة،الأبالسة و جدرانهم الإسفلتية الضخمة ،الرازحة بقسوة أحقاد قرون مختزنة في قلوبهم السوداء ، لازلت تعلو وتمتد، أطفال تموت ، نساء ومساجد تنتهك حرماتهنّ أمام عدسات الكاميراوات ، المجتمع الدولي ...مرحى للخرس وللصمم العالميين، الإرهاب أو الإسلام بريء من لحى تطول تحت اسمه... فاجعة الحادية عشرة...لنبدّل قناة الفواجع، ماذا نختار؟! قنوات الضحك على الذقون بكثرة أوبئة هذا الزمان...تبث أغان للفرجة ، أغلق أذنيك فقط وافتح عيونك باتساعهما على نخاسة الأجساد و تجارة الرقيق من كل الأجناس والأعراق . الدراما بكلّ اللغات، بتنا نستورد مع القمح والسكر والقهوة البعض من الأحلام الوردية والمشكلات العاطفية بنكهات متعددة: تركي، كوري، مكسيكي ،هندي أو ربما فيلم مترجم ببطل أمريكي وسيم ،مفتول العضلات والأكاذيب ،هرقل القرن الحادي و العشرين،حامي الكون من كائنات فضائيةـ في كوننا كائنات اشد فتكا دون مركبات غريبة الأشكال ووجوه خضراء بأسلحة فتاكة،كائنات أنيقة ببدلات و ربطات عنق فخمة و طائرات خاصة و أقلام مذهبة ،جرّة قلم واحدة ...والآلاف إلى العدم ـ
الإذاعة الثقافية...ثقافة الاغتراب و الابتئاس و الموت بداء الوطن وعقم الكلمات . ومن حسن حظي أني أنام وحيدا فأصغي إلى جسدي واصدق موهبتي في اكتشاف الألم فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق وأخيب ظن العدم من أنا لأخيب ظن العدم من أنت يا درويش؟ يا أيها العملاق في زمن القامات المتقزمة،تتساءل من أنت؟ بلى، من أنت؟من نحن؟ومن هم؟ تتعالى الأصوات متداخلة، تتشابك دروبها لتصل إلى أذنيّٙ ضوضاء ألفٙت۫نِي في وحشة الوحدة. كلّ مساء حين تداهمني الظلمة، التفّ في فراشي وأغطي رأسي وأبدأ الانتحاب، باكية من الخوف والبرد والوحدة. بحلول الفجر، أكون قد ذويت كالشمعة المحترقة.وفي الصبح وبعد أن أرعبني الليل، انزلق بسلاسة انسياب النور من شرفات الانتظار وانسحب رويدا من فخاخ العدم لأعبر بحذر فوق شظايا جسدي المرتعب و أمام المرآة ككلّ يوم ألملم نفسي و أعيد ترتيب ملامح وجهي التي بعثرها الخوف. أرتدي معطف السواد وألفّ وشاح الصوف حول عنقي، أجمع أوراقي المضطربة و أضمّ حقيبة الجلد الصغيرة إلى صدري وأمضي في زحام الصباح إلى مقاعد الدرس.
كائن مرتعب، تنشب الوحدة مخالبها في روحه الضالة ، وتُف۫حِمه إجابات قاسية لتساؤلات الوجود، يخنقه الخوف كأنشوطة لُفّت ببراعة جلاد حول رقبة محكوم بالإعدام. تستقبله كلية الآداب بشعبها : العربية، الفلسفة، التاريخ، الجغرافيا وغيرها من الاختصاصات الملعونة بشبح البطالة في خفر، ويدخلها كديناصور أخير، حاملا دفاتره وعدد جديد من إحدى المجلات الأدبية و إذا ما اعترضت دربه إحداهن مختطفة سلوى الصباح الوحيدة من بين يديه باحثة عن صورة مغنيها المفضل أو أخبار هيفوات "الموزيكا" العربية،يخبرها انه يحدث أحيانا أن تخلو مطبوعة عربية من صورهم وأخبارهم وأسماء كلابهم ...حاشا أسماعكم! لكن البصر ملّ ـ قبل السمع ـ وجوههم "المعدّلة" تجميليا،تراهم أكثر مما ترى أقاربك ، تصادفهم على القمصان والحقائب و إعلانات الشامبو و الصابون، يطاردونك في كلّ مكان و إذا ما أخطأت واشتريت جريدة ثلاثة أرباعها إعلانات للعرافين و الدجالة و أدوية الفحولة وما تبقى منها حظك اليوم وأريد حلا و مهازل لعبة الجلد المكور، ذائعة الصيت ، فسيصعقك على الصفحة الأولى و بأعرض الخطوط خبر طلاق هرّة الشاشة من فهد الأغنية،مأساة،تطلقا قبل أن ينجبا هزبر الأمة العربية . و إذا ما سألك احدهم متعمّدا جرح اعتزازك باختياراتك: ماذا تدرس؟ فرجاء ارفع راسك و قلها في ثقة،لا تغممهما رجاء اهتفها كشطر قافية يتوق إلى شقّه الأعذب: ـ أدرس اللغة العربية ، لغة الأسلاف و المجد الغابر،حلمي الاجمح خيالا هو أن أقوِّم ألسنة أولادك ليهتفوا بكلمات الحب والحياة والنصر والعلم بالعربية ،إذا ما قُدِّر لي العمل طبعا . ﴿قلها في سرك هذه الجملة الأخيرة،فقط لتطمئن نفسك أن الأمل موجود وأن الحياة تلعب لعبتها الأجمل أحيانا﴾
بحث هذه المدونة الإلكترونية
الجمعة، 23 يوليو 2010
مخاوف فراشة النّور
هل نحن من نعيش حياتنا أم هي من يعيشنا ويستنزفنا؟
رفعت رأسي المحموم،أجالت البصر ملتقطة ضحكة فاقعة تبادلتها نادلة صفراء مع زميل لها ومختزنة القليل من حميمية المكان ،رؤوس كثيرة تملؤه هذا المساء.
على الطاولة المحاذية لطاولتي، تجاور رأسا عاشقين تقاربا حتى كادا أن يتلامسا، كان بينهما همس اخفت من أن يصل سمعي المتوثب و قبل هوائية تبادلاها على مهل، قرأتها في نظراتهما، في اختلاج الشفاه، ووميض العيون كنت الوحيدة التي تجلس إلى طاولة وحيدة في الركن، راقبتهما حتى ارتجّ الفؤاد حزنا على وجودي وحيدة في مقهى مكتظ بالعشّاق وأزواج المحبين.
الرابع عشر من شهر فيفري الكئيب،
عيد العشّاق...أو أشتات من يوم آخر حزين دونك.
عيد الحب ...أو وهم خلقته مخيّلات ضحلة في حاجة إلى يوم يذكرها بأنّها في حالة حب ـ كأنّما الأمر يستحق التذكيرـ وأنّ أي هدية مهما بلغت قيمتها قد تفلح في ترجمة مقدار حبنا.
عيد الحب...أو فرصة تستغلها شركات تصنيع الهدايا وبطاقات التهنئة والدمى البيضاء بقلوب قانية والشموع الوردية ذات الروائح العطرة والورود المستنبة و شركات الاتصالات وأصداءالحب المذاعة في أغان جوفاء.
عيد الحب ...أو إحباط جديد لقلب يتداعى.
في يوم كهذا، ماذا يعني الحب في عالم ملؤه العدوان، والقهر، والفقر، والجشع، والكره، والجهل، والمرض؟؟؟ ماذا يجدي الحب في مواجهة الوحدة ،والفقدان والموﺗــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ؟؟؟
في يوم كهذا،لم اقبع في مقهى خافت الإضاءة،تملؤه المناجاة والقبل الطائرة وتلامس الأيادي الدافئة واستهزاء النادلة مصطنعة الشقرة من بلهاء تجلس وحيدة محدقة في فنجان قهوتها الباردة؟
دفعت مقابل جلسة الوحدة الكئيبة وخرجت.
خارج المقهى، كانت الريح تعوي وقطرات المطر بدأت التزاحم لتبلل بلّور السيارات والواجهات وبعض المارّة المسرعين للعودة إلى بيوتهم في بداية مساء قارص البرودة ونهاية يوم صاخب تراقص على وقع القلوب الخافقة لكلمات الغزل و الرسائل المضمخة حبا وعطرا.
وقفت في عرض الطريق.
ولأوّل مرة، تلفتت حولي ممعنة النظر: الأشجار العارية من أوراقها تقف مرتجفة بطول الرصيف واللافتات الضوئية الغامزة بكلّ الألوان لمحلات الأناقة والمقاهي وكلّ تلك الأضواء المشعّة ورائحة المطر و...السيارات الضّاجة وقد تعالى زعيقها و صياح سائقيها الساخطين .
وقفت متجردة من كلّ الخيوط الواهية التّي تربطني بهذه المدينة، أسلمت وجهي للمطر يغسلني من أوجاعي...
جذبتني يد خشنة نفُذ صبرها وأرجعتني في عنف إلى الرّصيف مع سيل من الشتائم.
مشيت يبللني المطر، كان هناك حديث صامت بين أعمدة الهاتف و الشرفات المغلقة ومواء قطة جائعة قفزت إلى حاوية خضراء مثقلة زبالة، و نشيج مخمور تقاذفته الجدران...
خطورة الحب أنّنا لا نعي وقوعنا إلا في وقت متأخر جدا...
وقت تصبح فيه كلﱡ محاولة للنهوض من جديد صعبة جدا و مستحيلة ومؤلمة.
وإذا كان ما نعيشه اليوم ـ مهما بلغت قسوته ـ هو نتيجة تفاصيل صغيرة تراكمت في الماضي ، فكم هوصعب ومستحيل ومؤلم العيش مع فكرة أنك غدوت مجرّد تفصيل صغير من الماضي، صورة أعيش على إحيائها في ذاكرتي علّها تصبح حقيقة وتُنفخ فيها الروح من جديد.
عيد العشّاق...نخب الوداع والفراق...
وشكرا للذكرى الأقسى على قلبي. توقف المطر عن الهطول ووقفت أنا تحت عمود إنارة انتظر مرور تاكسي يقلني إلى بيتي في الضفة الأخرى من المدينة. مثقلة الرأس، بردانة أنتظر السيارة الصفراء،أقطر بللا و حزنا...
تباطأت سيارة وتوقفت...
سيارة بيضاء، لمّعها المطر و أضواء المساء الخافتة وأطلّ منها رأس أسمر و ابتسم:
ـ نوّصلك... برد عليك.
وتسلّقتني النظرات متفحصة:الحذاء الموحل، المعطف الأسود المبلل، وجهي المتجهم، سيول الكحل متعرّجة جداول سوداء على وجنتي، شعري في فوضى الخصلات المجعدة...
ملامح شاحبة لأنثى محنّطة في طريقها للانقراض بعيون مذعورة، فلم لا يمضي و يدعني لشأني، صاحب هذه السيارة البيضاء ذات الهوية الأجنبية بأرقام واسم مدينة تنتمي إلى قطر عربي شقيق؟&
لِم يُلْغمني خوفا وذعرا؟
في مواجهة المعاكسات ،يثقل لساني ويتملكني الجمود ،أضنُّ بكلماتي واكتفي بنظرة موجزة،مشبعة احتقارا وامضي،لكن في مساء ممطر ،مقفر تلفه الظلمة ويلوذ عابروه بدفء البيوت و المقاهي، اكتفي بالتسّمر مكاني،متأهبة للفرار وإطلاق حنجرتي بالصراخ.
لم لا يمضي هذا الغريب الذي لا يتوقف عن الكلام ؟ ألا يرى شحوبي و ارتجافي؟ لم لا يمضي؟!
وانطلقت السيارة البيضاء أخيرا، خلّفتني مجهدة، خافقة القلب كطريدة فرّت بشق الأنفس من البراثن وضحكت عاليا، قهقهت حتى دمعت عيوني لا يزال ذاك الشعور المبهم المسمى ـ عموما ـ بالخوف قادرا على وخزي والنبض داخلي بكلّ الانفعالات، أنا الكائن المجبول خوفا، لازلت لي القدرة على الارتجاف وجلا من رجل مجهول في بداية المساء.
تجيء السيارة الصفراء مفاجئة دائما في هذه المدينة، كالمطر تماما، تغيب إذا انتظرتها...
متهدجة الأنفاس ،غمغمت عنواني للسائق، حدجني مستغفرا وتبادلت ابتسامة مكتئبة مع انعكاس وجهي في المرآة، إنها مدينة النوايا الملتوية والأفكار المغلوطة .
بنات الجامعة في هاته المدينة يُرْمقنّ شرزا ،يُعرفنّ من تأنقهنّ الزائد عن اللزوم ولهجاتهنّ المخفية في رطانة أبناء المدن وأحيانا تشي بهن حرية المغالطات التّي يمارسنها بعيدا عن أنظار الآباء والإخوة في" البلاد" .
بنات الجامعة،أدرجهنّ في ثلاث فئات باعتبار مظهرهن الخارجي و ميولاتهن والأهداف المرصودة في أذهانهن : فئة أولى ، ملتزمة بالتقاليد و مبادئ " الشرف "التّي تربت عليها ،واضعة نصب عينيها الشهادة الجامعية والتميز، لا تعرف غير طريق واحد ثلاثي الوجهة: الكلية ،المبيت،المطعم الجامعي . يقضينّ أوقاتهن في غرفهن أو في المكتبات وإذا ما دبّ الملل في نفوسهن، قد يخرجن في كوكبة فتيات مبتسمات في خجل وأحيانا في استعلاء. هذه الفئة بالذات تثير فضولي وكم راقبتهن في عجب في قاعات الدرس وهن منتبهات، ايادهن تخطّ ما يتفوه به الأساتذة ممن درر، يهززن رؤوسهن في انبهار و يكدن السجود في "الحرم" الجامعي ، يعجبني إصرارهن على تحقيق أهدافهن ،أنا التي افشل في إيجاد هدف واحد لوجودي .
فئة ثانية، يقضين أوقاتهن في المقاهي والنزل و المطاعم ومراكز اللهو والاستمتاع المنتشرة كالفقاع في هذه المدينة،الضاحكة بأسنانها الصفراء لطالبي اللذة القادمين من كل الأصقاع. متشابهات لدرجة الغرابة، متلونات كحرباوات، زاهيات كورود بلاستيكية ، مقنّعات بابتسامات حمراء فاقعة أجدن رسم زواياها ، يتصيدن نظرات الاشتهاء لمؤخراتهن المحشورة في سراويل الدجين الضيّقة، يتبادلن ملابس الإغراء وعلب الماكياج و العدسات اللاصقة وفي آخر اليوم ،حين يعدن إلى غرف المبيت ـ إذا ما عدن ـ يتباهين بحصيلتهن ويرتمين بثقل على الأسرة مواصلات أحاديثهن و شجاراتهن التافهة .
أمرُّ بهن و ابتلع غصّة الأمهات المنتظرات في لهفة عودة بناتهن "المغتربات" أما الفئة الثالثة فهي الوجوه المتعبة و الأقدام الراكضة خلف الحافلة و المترو والتأففات من صعوبة المقررات الدراسية ولهفة التساؤل عن المنح و القروض الجامعية ، هي الملل و الإحباط من مرور السنوات بغتة في ذات الفصل والخوف من التخلف عن قطار الزواج في انتظار التخرج والكاباس والوظيفة ، وهي أحيانا أحلام وردية تخفق بها العيون لزميل ونظرات غيرة وقصص وحكايات كثيرة عن الحب ، يجهدها الولاء للعائلة والتوق للتحرر. فئة هجينة تتقاسمها صرعات الموضة والتقليد لنجمات هزّ الخصور والنهود العربية أو الالتزام بالزي" الإسلامي" .
وكم كتمت ضحكات مرارة وأنا أشاهد بعض الملتزمات في أزياء مبتكرة تُلْفت الأنظار،أزياء تجمع السراويل الضيقة والتنانيرالقصيرة والقمصان المشدودة والكعوب العالية وحدائق من الورود على الرؤوس و الصارخ من الزينة على الوجوه وكم شهدت لهنّ الشواطئ المهجورة من خلوات "بريئة" في غفلة عن العيون.
هل نحن من نعيش حياتنا أم هي من يعيشنا ويستنزفنا؟
رفعت رأسي المحموم،أجالت البصر ملتقطة ضحكة فاقعة تبادلتها نادلة صفراء مع زميل لها ومختزنة القليل من حميمية المكان ،رؤوس كثيرة تملؤه هذا المساء.
على الطاولة المحاذية لطاولتي، تجاور رأسا عاشقين تقاربا حتى كادا أن يتلامسا، كان بينهما همس اخفت من أن يصل سمعي المتوثب و قبل هوائية تبادلاها على مهل، قرأتها في نظراتهما، في اختلاج الشفاه، ووميض العيون كنت الوحيدة التي تجلس إلى طاولة وحيدة في الركن، راقبتهما حتى ارتجّ الفؤاد حزنا على وجودي وحيدة في مقهى مكتظ بالعشّاق وأزواج المحبين.
الرابع عشر من شهر فيفري الكئيب،
عيد العشّاق...أو أشتات من يوم آخر حزين دونك.
عيد الحب ...أو وهم خلقته مخيّلات ضحلة في حاجة إلى يوم يذكرها بأنّها في حالة حب ـ كأنّما الأمر يستحق التذكيرـ وأنّ أي هدية مهما بلغت قيمتها قد تفلح في ترجمة مقدار حبنا.
عيد الحب...أو فرصة تستغلها شركات تصنيع الهدايا وبطاقات التهنئة والدمى البيضاء بقلوب قانية والشموع الوردية ذات الروائح العطرة والورود المستنبة و شركات الاتصالات وأصداءالحب المذاعة في أغان جوفاء.
عيد الحب ...أو إحباط جديد لقلب يتداعى.
في يوم كهذا، ماذا يعني الحب في عالم ملؤه العدوان، والقهر، والفقر، والجشع، والكره، والجهل، والمرض؟؟؟ ماذا يجدي الحب في مواجهة الوحدة ،والفقدان والموﺗــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ؟؟؟
في يوم كهذا،لم اقبع في مقهى خافت الإضاءة،تملؤه المناجاة والقبل الطائرة وتلامس الأيادي الدافئة واستهزاء النادلة مصطنعة الشقرة من بلهاء تجلس وحيدة محدقة في فنجان قهوتها الباردة؟
دفعت مقابل جلسة الوحدة الكئيبة وخرجت.
خارج المقهى، كانت الريح تعوي وقطرات المطر بدأت التزاحم لتبلل بلّور السيارات والواجهات وبعض المارّة المسرعين للعودة إلى بيوتهم في بداية مساء قارص البرودة ونهاية يوم صاخب تراقص على وقع القلوب الخافقة لكلمات الغزل و الرسائل المضمخة حبا وعطرا.
وقفت في عرض الطريق.
ولأوّل مرة، تلفتت حولي ممعنة النظر: الأشجار العارية من أوراقها تقف مرتجفة بطول الرصيف واللافتات الضوئية الغامزة بكلّ الألوان لمحلات الأناقة والمقاهي وكلّ تلك الأضواء المشعّة ورائحة المطر و...السيارات الضّاجة وقد تعالى زعيقها و صياح سائقيها الساخطين .
وقفت متجردة من كلّ الخيوط الواهية التّي تربطني بهذه المدينة، أسلمت وجهي للمطر يغسلني من أوجاعي...
جذبتني يد خشنة نفُذ صبرها وأرجعتني في عنف إلى الرّصيف مع سيل من الشتائم.
مشيت يبللني المطر، كان هناك حديث صامت بين أعمدة الهاتف و الشرفات المغلقة ومواء قطة جائعة قفزت إلى حاوية خضراء مثقلة زبالة، و نشيج مخمور تقاذفته الجدران...
خطورة الحب أنّنا لا نعي وقوعنا إلا في وقت متأخر جدا...
وقت تصبح فيه كلﱡ محاولة للنهوض من جديد صعبة جدا و مستحيلة ومؤلمة.
وإذا كان ما نعيشه اليوم ـ مهما بلغت قسوته ـ هو نتيجة تفاصيل صغيرة تراكمت في الماضي ، فكم هوصعب ومستحيل ومؤلم العيش مع فكرة أنك غدوت مجرّد تفصيل صغير من الماضي، صورة أعيش على إحيائها في ذاكرتي علّها تصبح حقيقة وتُنفخ فيها الروح من جديد.
عيد العشّاق...نخب الوداع والفراق...
وشكرا للذكرى الأقسى على قلبي. توقف المطر عن الهطول ووقفت أنا تحت عمود إنارة انتظر مرور تاكسي يقلني إلى بيتي في الضفة الأخرى من المدينة. مثقلة الرأس، بردانة أنتظر السيارة الصفراء،أقطر بللا و حزنا...
تباطأت سيارة وتوقفت...
سيارة بيضاء، لمّعها المطر و أضواء المساء الخافتة وأطلّ منها رأس أسمر و ابتسم:
ـ نوّصلك... برد عليك.
وتسلّقتني النظرات متفحصة:الحذاء الموحل، المعطف الأسود المبلل، وجهي المتجهم، سيول الكحل متعرّجة جداول سوداء على وجنتي، شعري في فوضى الخصلات المجعدة...
ملامح شاحبة لأنثى محنّطة في طريقها للانقراض بعيون مذعورة، فلم لا يمضي و يدعني لشأني، صاحب هذه السيارة البيضاء ذات الهوية الأجنبية بأرقام واسم مدينة تنتمي إلى قطر عربي شقيق؟&
لِم يُلْغمني خوفا وذعرا؟
في مواجهة المعاكسات ،يثقل لساني ويتملكني الجمود ،أضنُّ بكلماتي واكتفي بنظرة موجزة،مشبعة احتقارا وامضي،لكن في مساء ممطر ،مقفر تلفه الظلمة ويلوذ عابروه بدفء البيوت و المقاهي، اكتفي بالتسّمر مكاني،متأهبة للفرار وإطلاق حنجرتي بالصراخ.
لم لا يمضي هذا الغريب الذي لا يتوقف عن الكلام ؟ ألا يرى شحوبي و ارتجافي؟ لم لا يمضي؟!
وانطلقت السيارة البيضاء أخيرا، خلّفتني مجهدة، خافقة القلب كطريدة فرّت بشق الأنفس من البراثن وضحكت عاليا، قهقهت حتى دمعت عيوني لا يزال ذاك الشعور المبهم المسمى ـ عموما ـ بالخوف قادرا على وخزي والنبض داخلي بكلّ الانفعالات، أنا الكائن المجبول خوفا، لازلت لي القدرة على الارتجاف وجلا من رجل مجهول في بداية المساء.
تجيء السيارة الصفراء مفاجئة دائما في هذه المدينة، كالمطر تماما، تغيب إذا انتظرتها...
متهدجة الأنفاس ،غمغمت عنواني للسائق، حدجني مستغفرا وتبادلت ابتسامة مكتئبة مع انعكاس وجهي في المرآة، إنها مدينة النوايا الملتوية والأفكار المغلوطة .
بنات الجامعة في هاته المدينة يُرْمقنّ شرزا ،يُعرفنّ من تأنقهنّ الزائد عن اللزوم ولهجاتهنّ المخفية في رطانة أبناء المدن وأحيانا تشي بهن حرية المغالطات التّي يمارسنها بعيدا عن أنظار الآباء والإخوة في" البلاد" .
بنات الجامعة،أدرجهنّ في ثلاث فئات باعتبار مظهرهن الخارجي و ميولاتهن والأهداف المرصودة في أذهانهن : فئة أولى ، ملتزمة بالتقاليد و مبادئ " الشرف "التّي تربت عليها ،واضعة نصب عينيها الشهادة الجامعية والتميز، لا تعرف غير طريق واحد ثلاثي الوجهة: الكلية ،المبيت،المطعم الجامعي . يقضينّ أوقاتهن في غرفهن أو في المكتبات وإذا ما دبّ الملل في نفوسهن، قد يخرجن في كوكبة فتيات مبتسمات في خجل وأحيانا في استعلاء. هذه الفئة بالذات تثير فضولي وكم راقبتهن في عجب في قاعات الدرس وهن منتبهات، ايادهن تخطّ ما يتفوه به الأساتذة ممن درر، يهززن رؤوسهن في انبهار و يكدن السجود في "الحرم" الجامعي ، يعجبني إصرارهن على تحقيق أهدافهن ،أنا التي افشل في إيجاد هدف واحد لوجودي .
فئة ثانية، يقضين أوقاتهن في المقاهي والنزل و المطاعم ومراكز اللهو والاستمتاع المنتشرة كالفقاع في هذه المدينة،الضاحكة بأسنانها الصفراء لطالبي اللذة القادمين من كل الأصقاع. متشابهات لدرجة الغرابة، متلونات كحرباوات، زاهيات كورود بلاستيكية ، مقنّعات بابتسامات حمراء فاقعة أجدن رسم زواياها ، يتصيدن نظرات الاشتهاء لمؤخراتهن المحشورة في سراويل الدجين الضيّقة، يتبادلن ملابس الإغراء وعلب الماكياج و العدسات اللاصقة وفي آخر اليوم ،حين يعدن إلى غرف المبيت ـ إذا ما عدن ـ يتباهين بحصيلتهن ويرتمين بثقل على الأسرة مواصلات أحاديثهن و شجاراتهن التافهة .
أمرُّ بهن و ابتلع غصّة الأمهات المنتظرات في لهفة عودة بناتهن "المغتربات" أما الفئة الثالثة فهي الوجوه المتعبة و الأقدام الراكضة خلف الحافلة و المترو والتأففات من صعوبة المقررات الدراسية ولهفة التساؤل عن المنح و القروض الجامعية ، هي الملل و الإحباط من مرور السنوات بغتة في ذات الفصل والخوف من التخلف عن قطار الزواج في انتظار التخرج والكاباس والوظيفة ، وهي أحيانا أحلام وردية تخفق بها العيون لزميل ونظرات غيرة وقصص وحكايات كثيرة عن الحب ، يجهدها الولاء للعائلة والتوق للتحرر. فئة هجينة تتقاسمها صرعات الموضة والتقليد لنجمات هزّ الخصور والنهود العربية أو الالتزام بالزي" الإسلامي" .
وكم كتمت ضحكات مرارة وأنا أشاهد بعض الملتزمات في أزياء مبتكرة تُلْفت الأنظار،أزياء تجمع السراويل الضيقة والتنانيرالقصيرة والقمصان المشدودة والكعوب العالية وحدائق من الورود على الرؤوس و الصارخ من الزينة على الوجوه وكم شهدت لهنّ الشواطئ المهجورة من خلوات "بريئة" في غفلة عن العيون.
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)